29‏/5‏/2011

أمركة الديمقراطية أم ديمقراطية أميركا؟


(د.حكمت حسين أحمد)
يتبادر إلى الذهن في هذا العصر - عصر الديمقراطية الأميركية والعولمة وما يتبعهما - سؤال بسيط وصعب بآن واحد: ترى هل أميركا سبقت الديمقراطية أم الديمقراطية هي التي سبقت أميركا؟ وما ديمقراطية أميركا التي تريد فرضها على سورية والعالم؟ لننظر عزيزي القارئ في تاريخ بلاد العم سام حتى نعرف الجواب ونستخلص العبر...
بادئ ذي بدء نتكلم قليلاً عن نشأة هذه الدولة التي قامت على جماجم الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين وكيف يغيب عن ذاكرة التاريخ حينما أشاد الرئيس الأميركي (تيودور روزفلت) بما سماه شجاعة الجنود الأميركان في ارتكاب أبشع مجزرة في تاريخ البشرية بحق الهنود الحمر إلا وهي مجزرة ساندكريك وأكد أنه يفتخر بهؤلاء وأعرب عن اعتقاده بشأن هذه المجزرة البشعة قائلاً: «إن حادث ساندكريك كان عملاً أخلاقياً مثمراً للمجتمع الأميركي حيث إن القضاء على الطوائف المتدنية الضحلة ضرورة ملحَّة».
وللتمييز العنصري بحق الزنوج الأميركيين قصة ورواية؛ فمن منا لا يعرف شخصية عظيمة اسمها (مارتن لوثر كينغ) الذي علَّم العالم مدَّعي التحضر معنى المساواة بين البشر وما هي حقوق الإنسان فكانت مسيرة نضاله منارة كفاح تنير صفحات التاريخ الأميركي المظلمة؟ هذا التمييز الذي ما زلنا نراه إلى اليوم؛ فوصول رئيس ذي أصول إفريقية إلى البيت الأبيض هو مِنَّة تفضلَّت بها أميركا على مواطنيها الزنوج والعالم بأسره، كيف لا وأميركا هي التي تعلِّم العالم الديمقراطية والحرية وأنه لا فرق بين أبيض وأسود!!. ألم يُترَك زنوج أميركا ليواجهوا الموت والهلاك في إعصار كاترينا وما تبعه لأنهم مواطنون من الدرجة العاشرة في بلد الحرية والديمقراطية؟ وهل كانت المواطنة يوماً تقاس بالدرجات والنجوم؟ نعم يا سيدي لقد أُغيث الأميركيون البيض أولاً وترك السود ليواجهوا مصيرهم المحتوم في عهد بوش الصغير محارب الإرهاب العظيم وناشر الديمقراطية الأميركية، فأين حقوق الإنسان وحقوق المواطنة والحرية والديمقراطية؟!
هل تهتم حقاً الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت سلاحاً نووياً لأول مرة في تاريخ البشرية لتلقي به على اليابان فتقتل من تقتل وتدمر أجيالاً متعاقبة، هل تهتم حقاً بحقوق الإنسان؟ فقرار إلقاء هذا السلاح الرهيب الذي يشكل أكبر تهديد للبشرية لم يكلف الرئيس الأميركي آنذاك (هاري ترومان) الكثير من التفكير وتأنيب الضمير.
ألم يخرج (بوش الأب) ليقول في أحد خطاباته في بداية التسعينيات من القرن الماضي وبالحرف الواحد:
«GOD IN THE SKY AND I AM ON THE EARTH» أي (الله في السماء وأنا على الأرض) وبديهي القول إن كلمة «أنا» لا تدل على شخص بوش الأب بل تدل على أميركا لأنه ذاهب وأميركا باقية.
ألم يفتخر (بيل كلينتون) في أحد تصريحاته «بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن أميركا بلا منازع» فخرج ليبشر العالم ببداية العولمة أو بالأصح الأمركة؛ أمركة التفكير والشعور والثقافة وطرق العيش والحياة والطعام واللباس والهواء؛ فلكي تتطور شعوب العالم وتترقى إلى مستوى أميركا يجب عليها تنفس الهواء الأميركي والتفكير بالطريقة الأميركية. نعم يا سيدي هذه هي النظرة الأميركية إلى شعوب العالم وهذه هي معاملة الند للند، ديمقراطية أميركا التي تعامل الشعوب بها وتريد تعميمها وجعلها ثقافة كونية!!
وإذا انتقلنا عزيزي القارئ إلى زاوية أخرى من مسرحية الديمقراطية الأميركية وملحمة حقوق الإنسان فلا بد لنا من النظر إلى الداخل الأميركي وكيف تكال الأمور في بلاد العم سام؟
فالتفوه بكلمة واحدة عن حقيقة إسرائيل العدوانية والعنصرية هي معاداة للسامية وتحريض على الكره وإثارة المشاعر المعادية لليهود، فالمس بأمن إسرائيل هو كبيرة الكبائر وذنب عظيم لا يغتفر لأن إسرائيل هي واحة الحرية والديمقراطية في المنطقة وهي الطرف الأضعف والمظلوم وجب على العالم المتحضر أن يدافع عنه من الإرهاب العربي الإسلامي!! أهو جنون العظمة أم جنون البقر في بلد رعاة البقر ذاك الذي أصاب عقول هؤلاء الساسة؟ نعم يا سيدي فقد طُرِدَت عميدة الصحفيين الأميركيين (هيلين توماس) ذات الأصول العربية اللبنانية - التي كان يعتبر حضورها لمؤتمرات البيت الأبيض الصحفية بروتوكولاً وتقليداً لا يكتمل من دونه أي مؤتمر صحفي - طُرِدَت من مؤسستها شر طردة لا لذنب اقترفته إلا موافقتها بالرأي والثناء على ما قاله الأستاذ (ياسر قشلق) رئيس حركة فلسطين حرة: (إن على الصهاينة في فلسطين العودة من حيث جاؤوا) إلى آخر ما ذكر في سياق الكلام، فهل رأيت يا سيدي القارئ حرية في التعبير عن الرأي مثل هذه الحرية؟ وهل رأيت استغباء للشعوب عامة وللشعب الأميركي خاصة أكثر من هكذا استغباء؟ فعن أي حرية رأي يتحدثون أهي الحرية التي تحددها (الأيباك)؟
وفي المقابل فأميركا تعتبر نشر الرسوم المسيئة للرسول الأكرم محمد (ص) حرية في التعبير عن الرأي وحواراً بين الأديان والحضارات، ولمَ لا و(بوش الابن) خرج ليقول إن أميركا ستحارب الإرهاب والتطرف الذي يمثله الإسلام من وجهة نظره هو وصقور إدارته، فهو لم يولد حين كانت عصابات الهاغانا وشتيرن وبلماخ والايتسل والليحي وغيرها تنشب مخالبها في جسد فلسطين الحبيبة التي تأسست دولة إسرائيل من قادة هذه العصابات بعدما ارتكبت أبشع وأفظع المجازر دموية ووحشية بحق شعبنا الفلسطيني البطل.
حقا شرُّ البلية ما يضحك عندما تجد هذا الدعم اللامتناهي لإسرائيل والتعصب الأعمى لهذا الكيان السرطاني الذي استفحل في قلب الأمة العربية فلسطين الحبيبة والقدس الشريف من دولة تدعي الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان؛ وهل بعد كل ذلك هنالك أكثر من هذا إرهاباً وتطرفاً في تاريخ البشرية منذ نشأتها؟
ديمقراطية أميركا وحقوق الإنسان يا سيدي تنصُّ وبكل فخر على تجويع الشعوب، على أن دولة مثل مصر العربية ذات التعداد السكاني الهائل والأكبر في المنطقة يجب ألا يسمح لها بتحقيق أمنها واكتفائها الغذائي - مثل ما فعلت سورية بقيادة القائد الخالد حافظ الأسد - من خلال منعها من زراعة المحاصيل الإستراتيجية كالقمح وغيره كي تظل رهينة المساعدات الأميركية وليس أدل على هذا الكلام عرقلة أميركا وربيبتها إسرائيل لجهود التنسيق المشترك الذي لاحت بوادره في أفق التعاون العربي العربي بين الشقيقتين مصر والسودان لزراعة ملايين الهكتارات من أخصب بقاع الأرض على طول الشريط الحدودي بينهما، فلقد وضع المشروع في أدراج المكاتب المظلمة لتأكله الرطوبة والنسيان ولا ننسى دخول إسرائيل على خط توزيع مياه نهر النيل الذي يمثل شريان الحياة لمصر والسودان عبر التعاون مع إثيوبيا على إنجاز مخطط شيطاني يحرم الدول العربية من حقها في ماء النيل على الرغم من البعد الجغرافي الذي يفصل إسرائيل عن منبع النيل لكي نقول إن إسرائيل مستفيدة من مياه النيل!
وديمقراطية أميركا تقول بتقسيم السودان ودعم الانفصاليين وتفتيت المفتت وتجزيء المجزأ؛ نعم يا سيدي فبجهود أميركا المباركة تم تقسيم أكبر بلد عربي إفريقي عبر مسرحية الاستفتاء المضحكة، ولنصدِّق فرضاً أن أميركا تدعم تطلعات الشعوب وحقها في تقرير مصيرها فلماذا لا تدعم حركات انفصالية أخرى مثل حركة إيتا الانفصالية التي تطالب باستقلال إقليم الباسك الشمالي عن إسبانيا منذ عقود أم إن هذه الحركة هي حركة إرهابية؟
والحرية الأميركية تقضي باستخدام حق النقض (الفيتو) بمجلس الأمن الدولي الإسرائيلي في وجه كل مشروع يمكن أن يحمل ولو كلمة إدانة لإسرائيل ضاربة بعرض الحائط كل القرارات والقوانين التي توافق عليها أكثرية الدول الأعضاء في المجلس المذكور لتمارس أميركا تحت قبة هذا المجلس أسوأ أشكال الديكتاتورية ومصادرة الرأي ولكن على نطاق دولي تساندها بعض الدول التي تعيش على أمجاد إمبراطورياتها الغابرة لتتفضَّل عليها سيدتها أميركا ببعض الأدوار في مسرحية المجتمع الدولي الذي نصَّب نفسه ناطقاً رسمياً باسم الشعوب المضطهدة والمظلومة فاحتل العراق ودمره وشرَّد شعبه وأعاده إلى العصر الحجري بحجة تحرير الشعوب ونصرة قضاياها، فمنذ متى كان الاحتلال نصيراً لقضايا الشعوب ورافعاً للواء التحرر وهو نفسه يصادر هذه الحقوق ويستغل ثروات الشعوب؟ إنها يا سيدي وبكل جدارة مهزلة القرن الحادي والعشرين فحتى المسرحي الفرنسي الشهير (موليير) وهو الذي اشتهر بسخريته من زيف الملوك والسلاطين وبطشهم لم يكن ليصل به الخيال الخصب إلى هذا الحد؟!
وبعد كل هذا العرض عزيزي القارئ - الذي لا يشكل غيضاً من فيض فصول مسرحية الديمقراطية والحرية على الطريقة الأميركية - تتضح صورة هذه الديمقراطية التي تريد بلاد العم سام فرضها على سورية الحبيبة؛ إنها ديمقراطية العين الواحدة التي لا ترى إلا مصلحتها ومصلحة إسرائيل وأمنها، والمعايير المزدوجة التي تكيل بها أميركا لتكون كالسيف المسلَّط على رقاب شعوب العالم ولكن ليس على شعب سورية الأبي شعب يوسف العظمة البطل، إنها حرية قمع الشعوب وتجويعها عن طريق الحصار والعقوبات الاقتصادية لتطويع إرادة هذه الشعوب؛ ألم يقل (هنري كيسنجر) منذ زمن قريب أنه «لا بد من تجويع الفلسطينيين حتى يصبحوا أكثر استعداداً لقبول وضعهم النهائي والاتفاق عليه؟»، فما هذه الأخلاق النبيلة وهذا الاحترام لحقوق الإنسان؟ فلو أن مسؤولاً آخراً غير أميركي قال هذا الكلام لقامت الدنيا عليه ولم تقعد ولكان اعتبر مجرماً ومعادياً لحقوق الشعوب أما الأميركان فذنبهم مغفور لأنهم رعاة الإنسانية والحرية؟
ولا يغيب عن ذاكرتنا القريبة ذاك الحصار الذي فرضته أميركا على سورية في الثمانينيات من القرن الماضي عقاباً لها على وقوفها في وجه إرهاب أميركا فلم يزد هذا الحصار سورية إلا قوة ومنعة وحصانة على المدى البعيد فالحاجة أم الاختراع كما يقال ولكن كما يبدو أن أميركا لم تتعلم من الدرس السابق فأقرت إدارة (بوش الابن) قانون محاسبة سورية الهزلي وعادت إدارة (باراك أوباما) لتجدد وتفرض هي والاتحاد الأوروبي في ظل الأوضاع الراهنة التي تمر بها المنطقة عقوبات لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به على سورية الأسد - وأقول الأسد لأنه لو لم يكن الأسد الذي لم تُكسَر شوكته الواقفة في حلوقهم بل على العكس تكسرت مخططاتهم على أبواب سورية - لكانت سورية هي راعية حقوق الإنسان في العالم وقديسة الدول وواحة الديمقراطية ومنارة الحرية إلخ من هذه الأوصاف التي تغدقها أميركا على الدول التي لا تحيد عن خطها السياسي بدلاً من وصف (محور الشر) أيام (بوش الابن).
بديهيٌ القولُ عزيزي القارئ إن للموقف في هذا العالم المتغير بسرعة ثمناً يجب أن يدفع، وإن للكرامة والسيادة والحرية ثمناً أيضاً ولكن من المؤكد أيضاً أن الحر والسيد في موقفه وكلمته سيجني ثمار هذه الحرية والصمود على المدى البعيد، فمن كانت جذوره عميقة وراسخة رسوخ حضارته العريقة فلن تقدر أعتى القوى في العالم على فرض إرادتها عليه فتلاحم الشعب الأبي مع القيادة الحكيمة سيولد قوة وصلابة لا يمكن اختراقها من الخارج ولذلك يعوِّل أعداء سورية الأبية على اختراق حصنها من الداخل ولكن هيهات هيهات إنها سورية أيها الأغبياء.
(الوطن)

ليست هناك تعليقات: